تخطى إلى المحتوى

التربية مدى الحياة ومقومات منظومتها في مجتمع المعرفة

  1. مظاهر ومقومات منظومة التربية مدى الحياة

هناك في العصر الحالي ضرورة لإعادة صياغة وتنظيم التعلم في سياق التعلم مدى الحياة، وذلك بشكل يجسد القيم التي تؤكد عليها البشرية وتدعو إليها في الوقت الراهن مثل: قيم حقوق الإنسان، وقيم حقوق المرأة، وحقوق الطفل، ورعاية الموهوبين وذوي الحاجات الخاصة، والتعلم للجميع، إلخ. وهذا ما يدعو نظام التعليم إلى بلورة رؤاه في هذا الاتجاه وتكييف عمله ليصبح أقدر على الموازنة بين تدفق المعرفة والقيم التي على النظام التعليمي ترسيخها، والتي يأتي في مقدمتها تطوير كفاءات الإنسان وتنمية مواهبه والتعامل مع مواقف الحياة بكيفية إيجابية. ومن هنا فإن سياسات التعلم مدى الحياة تشكل مساحة جديدة تقوم على الدمج بين الجوانب الرسمية وغير الرسمية للحياة الاجتماعية والثقافية وحياة العمل.

كما يتوجب على المنظومة التربوية في هذا الإطار أن تترك الباب مفتوحًا أمام المتعلم للاستفادة من كُلِّ الوسائل التربوية، التي تُتاحُ له في أي وقت وفي أي مكان. فالمهم هو إنْماء قدراته على معالجة المشكلات الجديدة والتغلُّب عليها، وقدرته على سرعة الحركة، وعلى الاقتصاد في الجهد المبذول؛ للتغلب على المعدل السريع للتغير، وأنْ يتعلَّم كيف يُمكنه القيام بعمل افتراضات احتمالية تتكرر في المستقبل.

وينبغي في هذا الإطار كذلك أن تغدو العملية التربوية مسؤوليَّة المجتمع كله بكل طاقاته وأجهزته وبكل أفراده، وإلى جانب ذلك فإنَّها تعتبر كُلَّ فرد مُعلمًا ومُتعلمًا في نفس الوقت، مما هو في الواقع جديد على التربية الحديثة.

ولكي تتحقق هذه الأهداف بشكل جيد، فإنَّ الأمر يتطلب رسوخ الباعث الدَّائم المتجدد للدِّراسة لدى أفراد المجتمع، بحيث تتوافر لديهم دوافعُ قويَّة ومُتجددة ومُستمرة، حتَّى يُقبلوا على التعليم مدى الحياة.
ومع التربية المُستمرة يتغير مفهوم النَّجاح والرسوب المدرسي؛ لأنَّ الشخص الذي قد يرسُبُ في فترة مُعينة أو في مرحلة مُعيَّنة من مراحل عُمره – سوف تتاح له فرص أخرى للنَّجاح بقية عمره، ولن يستسلم لليأس، فالهدف الرئيس: هو زيادة الفُرَص التي يختبر الفرد فيها قُدراتِه وإمكانيَّاته، وهي كثيرة ومُتنوعة، وتَمتد معه بامتداد حياته، مما يقتضي منه مواصلته للتعليم مدى الحياة.

إن شؤون التربية في هذا السياق التعليمي الجديد ليست قضية تقتصر على الجهات الرسمية المسؤولة على النظام التربوي والتعليمي بمفرده. إذ تنفتح منظومة التعليم على عدة قطاعات فاعلة وفعالة في المجتمع، حتى تساهم كلها بكفاءاتها ومهاراتها في إغناء التكوين المستمر لأفراد المجتمع، وتحيينه بما تتطلبه حاجاته. إن على مختلف قطاعات المجتمع الحديث أن تتيح أصنافا من التعليم خارج المقاعد المدرسية، لإكساب الفرد كفايات متطورة وقدرات جديدة على التكيف.

إن مفهوم التعلم في القرن الواحد والعشرين إذن أصبح يمتد مدى الحياة كلها، مما يقتضي مراجعة مراحل التعليم وعدم الاحتفاظ بالتقسيمات التقليدية التي درج عليها النظام التعليمي منذ أكثر من قرن من الزمن: تعليم ابتدائي وتعليم ثانوي، إلخ. إننا على أعتاب تعلم يشمل كل مراحل حياة الإنسان من الطفولة إلى نهاية العمر. كما ينبغي لنوع التعليم أن يكون شاملا لمختلف الأنشطة التي تتيح لكل فرد اكتساب المعارف الحية والدينامية التي تتعلق بالإنسان ذاته، وبالآخرين، وبالعالم، بكيفية مرنة ومترابطة. ولعل هذا ما حددته اللجنة التي ترأسها جاك دولور بطلب من المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) لمراجعة النظم التربوية حتى تصبح مهيأة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين والتي أنجزت تقريرها تحت عنوان ” التعلم ذلك الكنز المكنون” في عام 1995 والتي كان عملها هو استشراف مستقبل التربية ودورها في التنمية الشاملة التي تتطلع إليها دول العالم. وقام التقرير برسم التوجهات المستقبلية مبينا الدعائم الأربعة الأساسية التي ينبغي أن تحدو العمل التربوي لحفظ التوازن المنشود في اهتمامات المدرسة وعملها وممارستها اليومية خلال تربية الأطفال وتعليمهم. بحيث ينبغي للتعليم مدى الحياة أن يركز على أربع دعائم: التعلم للمعرفة والتعلم للعمل والتعلم للعيش مع الآخرين، وتعلم المرء ليكون:

  • التعلم للمعرفة: وهو التعلم الذي يجمع بين ثقافة عامة وواسعة بدرجة كافية، وبين إمكانية البحث المعمق في عدد محدود من المواد. وهو ما يعني أيضا تعلم التعلم، للإفادة من الفرص التي تتيحها التربية مدى الحياة.
  • التعلم للعمل: وهو تعلم لا للحصول على تأهيل مهني فحسب، وإنما أيضا لاكتساب كفاءة تؤهل بشكل عام لمواجهة مواقف عديدة وللعمل الجماعي، وكذلك التعلم للعمل في إطار التجارب الاجتماعية المختلفة وتجارب العمل المتاحة للنشء إما بصورة غير رسمية بفضل السياق المحلي أو الوطني، وإما بشكل رسمي بفضل تنمية التعليم المتناوب مع العمل.
  • التعلم للعيش مع الآخرين: ويتم بتنمية فهم الآخر وإدراك أوجه التكافل التي تحقق مشروعات مشتركة والاستعداد لتسوية النزاعات في ظل احترام التعددية والتفاهم والسلام.
  • تعلم المرء ليكون، حتى تستطيع شخصيته أن تتفتح على نحو أفضل، وليكون بوسعه أن يتصرف بطاقة متجددة دوما مع الاستقلالية في الحكم على الأمور والمسؤولية الشخصية. وينبغي لهذه الغاية ألا تغفل التربية أي طاقة من طاقات كل فرد: الذاكرة والاستدلال والحس الجمالي والقدرات البدنية والقدرة على التواصل، إلخ.

إن الاتجاه التربوي الحديث “التربية مدى الحياة” أدى إلى تحولات هامة في مفهوم إعداد وتدريب المدرسين أثناء الخدمة فأصبح أكثر شمولا وعمقا، بحيث تجاوز مجرد التدريب للحصول على بعض المهارات التعليمية وتخطيط الدروس وإعداد المواد التعليمية والتقويم، وذلك من أجل تلبية الحاجات المؤسسية الجديدة ورفع الكفايات لتمتد إلى آفاق أوسع من النمو المهني، حيث تجد الاحتياجات المعرفية والمهارية والوجدانية للمدرسين اهتماما كبيراً في إطار مفهوم المهنة بكل ما يتضمنه ذلك من أبعاد معرفية واجتماعية، إلخ. وإن إعداد المدرسين لا يتوقف عند تخرجهم والتحاقهم بالمهنة، وإنما يتواصل طوال خدمتهم فيها، فهي بذلك طويلة المدى تقوم على فكرة التعلم مدى الحياة، وليست مرتبطة بمدة زمنية معينة من أجل مدهم بكل ما هو جديد في مجال تخصصهم وتأهيلهم لمواجهة ما يُستجد من تطورات تربوية، والربط المستمر بين إعداد المدرس وحاجة المجتمع  والعصر وبذلك فهي عملية مكملة للإعداد قبل الخدمة.

إن من أهم العوامل التي تساعد المدرسة في مسعاها لممارسة مفهوم التعلم مدى الحياة العمل على دمج تقنية المعلومات في أنشطة التدريس والتعلم التي يقوم بها المعلمون والطلاب وتبني أساليب ”تعليم كيفية التعلم”. وتبني مبدأ ”التعليم بوصفه استثمارًا”. كما يقتضي الأمر تبني سياسة جديدة لاستقطاب أفضل الأفراد لمهنة التعليم وإتاحة الفرصة لهم لإتقان مهارات التوصل إلى المعرفة ذات الجودة وذات الصلة بمادة التخصص وبأساليب التدريس، ومهارات استخدامها، وتطويرها بشكل مستمر. وإعـداد المعلمين وتنميتهم مهنيًّا وفقًا لأحدث الاتجاهات التربوية المرتكزة على مفهوم التعلم مدى الحياة، ليتمكنوا من مواكبة المستجدات العلمية والمهنية، والتفاعل الإيجابي مع متغيرات الحياة في مجتمعاتهم وعلى مستوى العالم، بفكر ناقد بناء. ومن هنا تظهر أهمية إحداث مقرر جديد في كليات ومعاهد التربية يُعنى بدراسات المستقبل واستشرافه والنظر في متغيراته، وتدريب الدارسين عمليًّا على مناقشة واستنباط الصور المأمولة في تطوير مسار التعليم، والعمل على التحديث المستمر لبرامج مؤسسات إعداد المعلمين وتنميتهم أثناء العمل، من منظور التعلم مدى الحياة، وقيام وسائل الإعلام ومراكز البحث العلمي بدورها الداعم لترسيخ مفاهيم التعلم مدى الحياة للمعلمين، مع توفير متطلبات أساليب التعلم مدى الحياة من مصادر تعلم  وتثقيف ووسائل نشر وتواصل في المؤسسات التربوية.

إن تطبيق التربية مدى الحياة في المجتمعات النامية يحتاج إلى البيئات التمكينية التي من شأنها تعزيز الاستمرار في طلب التربية والتكوين. ولن يتأتى لهدف التربية مدى الحياة أن يجد طريقه إلى التطبيق في هذه الأقطار، وواقع نظام التربية والتكوين يعيش أوضاعه الحالية في تقييد ووضع الشروط القاسية أمام الراغبين في ولوج مؤسسات التعليم على اختلاف مستوياتها لاستكمال معارفهم وتطوير كفاياتهم. الشيء الذي لا يشجع على نشر التعليم بقدر ما يبعد المقبلين عليه.

وحتى تستطيع هذه الدول توطين مفهوم التربية مدى الحياة، فإنه ينبغي، في نظرنا، أن تتحقق فيها لعامة أفراد الشعب الشروط التالية:

  • جعل التعليم والتدريب المستمر للتأهيل للعمل، شعاراً اجتماعياً يتبناه المجتمع بأسره. وأن تتضمن برامجه مواصلة إعادة التأهيل وتجديد وبناء المعارف والقدرات للفرد بشكل يجعله قادرا على التكيف مع متغيرات سوق العمل المهني، وهي تغيرات متسارعة بحكم ثورة المعرفة والتكنولوجيا.
  • بناء سياسات واستراتيجيات داعمة وحافزة لإشراك الدولة والقطاع الخاص على تنمية منظومة التربية مدى الحياة.
  • إعطاء مؤسسات التعليم مساحة أكبر من الحركة والدعم وتمكينها من الموارد المادية الكافية وخاصة الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية…
  • ضرورة تعزيز دور شبكات الاتصال في العملية التعليمية والاستفادة من تقنيات التعليم الالكتروني والتعليم عن بعد، مما يعطي فرصة أكبر للراغبين في التعلم.
  • ضرورة تفعيل دور الجماعات المحلية والمجتمع المدني في فتح ونشر دور الثقافة في مختلف الأحياء لتقريب مواد الثقافة ومصادرها من الساكنة.

إن التعلم مدى الحياة هو مفتاح الدخول إلى القرن الحادي والعشرين، وهو يتجاوز التمييز التقليدي بين التعليم الأولي والتعليم المستمر، ويلتقي بمفهوم كثيرا ما يزداد الاهتمام به، وهو مفهوم مجتمع التعلم الذي يتيح كل شيء فيه فرصة للتعلم وتنمية المواهب والقدرات. فالتربية مدى الحياة تقوم على أسس تكييف المناهج الدراسية، في مُختلف مراحل التعليم، حتى تستطيع أن تُكوِّن المتعلم التكوين الملائم، وتزوده بالمهارات والقدرات التي تساعده على أنْ يكون مُعلِّمَ نفسه بعد الحياة المدرسية، و تجعله باحثًا عن الثقافة والتعليم بما يتلاءم والعصر الذي يعيش فيه، والبيئة التي يحيا فيها؛ حتَّى لا يغدو متخلِّفًا عن ركب عصره، والعالم حوله ينبض بالتقدُّم الحضاري والرُّقي التِّقني الذي يتميز به عصرُ العولمة ومجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، وهي تُراعي طبيعته، وتتماشى معها في نطاق قُدراتها، وتُحاول أنْ تدفع الفرد إلى تحقيق ذاته وتنمية طاقاته إلى أقصى درجة مُمكنة، ثم إنَّها تربية تهدف إلى نُمُو الفرد بصورة مُستمرة، فهي عمليَّة يتطور فيها الفرد؛ ليكونَ صالحًا للعمل في مجتمعه طوال حياته، وهي تَمتدُّ حيثما يكون نشاط الفرد وميدان عمله، كما أنَّها تشمل مختلف مواقف حياته في العمل وفي الأسرة، وفي المجتمع الخاص والمجتمع العام على السواء، وإلى جانب هذا فإنها تترك الباب مفتوحًا أمام المتعلم للاستفادة من كُلِّ الوسائل التربوية، التي تُتاحُ له في أي وقت وفي أي مكان.

إن المعرفة هي المحور الرئيس في عناصر الإنتاج الكلية في الاقتصاد الحديث، وهي أداة النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وبناء الاقتصاد المعاصر الذي يطلق عليه اقتصاد المعرفة. وتؤكد العديد من الدراسات أن البلدان الرائدة في المعرفة والعلوم والتكنولوجيا ظلت تتمتع بمعدل نمو اقتصادي على المدى البعيد أعلى بكثير من البلدان النامية. وفي الفترة ما بين عامي 1986 و1994، كان متوسط ​​معدل النمو في مجموعة البلدان الرائدة في المعرفة والعلوم والتكنولوجيا أكبر بنحو ثلاث مرات من بقية بلدان العالم النامية. ويؤكد التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع أن الدولار الواحد المنفق على التعليم يدُرّ بين 5 و15 دولاراً من خلال نسبة النمو الاقتصادي في الدول النامية. (UNESCO 2012).

لقد أدى اقتصاد المعرفة إلى زيادة الطلب الاقتصادي والاجتماعي على نسبة كبيرة من قوة عمل مزودة بتعليم عالٍ مع قدرتها على مواصلة التعليم المستمر مدى الحياة، ومن ثم تزايد استثمار الدول المتقدمة في التوسع في إتاحة أكبر قدر من الفرص في التعليم العالي.

والخلاصة أن الحضارة العالمية المعاصرة التي نعيشها ترتكز على المعرفة باعتبارها الثروة الحقيقية والمحور الأساس في عملية النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.


المراجع:

[1]  تقرير إدجار فور عبارة عن تقرير أعدته لجنة برئاسته بطلب من اليونيسكو يتناول التفرير قضايا التربية وتحدياتها الراهنة، وهو يحمل عنوان ” تعلم لتكون”( Apprendre à être).(1972).

[2]  (Le Cadre d’action de Beléme) عبارة عن وثيقة إطار تم تبنيها في المؤتمر الدولي لتعليم الكبار في 4 دجنبر 2009.

[3]  أحمد أوزي، تقرير المعرفة العربية 2010/2011 (حالة المغرب)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد المكتوم، ص. 352.

[4]  أحمد أوزري، المرجع السابق، ص. 353.

[5]  برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد المكتوم، 2014، تقرير المعرفة العربي الثالث، ” الشباب وتوطين المعرفة “.

 

المصدر

new-educ.com

الصفحات: 1 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *