تخطى إلى المحتوى

بين الرياضيـات واللغة روابط محكومة بالمنطق والتوازن

مكانة اللغة عند أسلافنا

عندما نتصفح كتابات علماء العرب والمسلمين في مجال الرياضيات والعلوم الأخرى فإننا نادراً ما نجد مؤلفات سيئة الأسلوب أو ركيكة اللغة. فقد كان جلّ هؤلاء العلماء يتحكمون في قواعد اللغة تحكماً كاملاً، وكان أسلوبهم يمزج بين العلم والأدب. ذلك مثلاً حالً أسلوب واضع علم الجبر، الخوارزمي (ت: 232هـ/846م) في كتابه «الجبر والمقابلة»، كما أن البيروني (ت: 400هـ/1084م) يتفق مع الخوارزمي في هذا الباب في كل ما كتب حول العلوم المختلفة.

وقد حذا حذو هؤلاء ابن سينا (370هـ/980م-428هـ/1037م) في الطب، والسموأل المغربي (524هـ/1130م – -570هـ/1175م) في الجبر، وابن الهيثم (354هـ/955م-431هـ/1040م) في البصريات، وأبو حنيفة الدينوري (ت: 282هـ/895م) في النبات، والإخوة بنو موسى (ق. 3هـ/9م) في الميكانيكا، والبتاني (244هـ/858م-317هـ/929م) في الفلك، وثابت بن قرة (ت: 288هـ/900م) في علوم شتى، ونصير الدين الطوسي (594هـ/1201م-672هـ/1274) في الرياضيات وغيرها، والبوزجاني (328هـ/940م-376هـ/986م) في علم المثلثات، وابن ماجد (نحو 830هـ/1426م- ت. بعد 933هـ/ 1527م) في علم البحار، وعمر الخيام (436هـ/1044م-517هـ/1123م) في الهندسة. وما هذه الأسماء إلا عينة ممن كانوا يتقنون في آن واحد علم اللغة والعلوم التي اختصوا فيها.

 

فما قول القارئ في سلامة ودقة وسلاسة اللغة في العينة التالية من النصوص العلمية:

هذا القانون الأول للحركة الذي ينسبه الغربيون إلى نيوتن (1051هـ/1642م-1140هـ/1727م) رغم أن ابن سينا (370هـ/980م – -428هـ/1037م) سبقه في ذلك ووصفه في العبارات التالية : «إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلِّي وطباعه، ولم يَعْرِضْ له من خارجٍ تأثيرٌ غريبٌ، لم يكن له بُدٌّ من موضع معيَّن وشكل معيَّن، فإن في طباعه مبدأ استيجاب ذلك، وليست المعاوقة للجسم بما هو جسم، بل بمعنى فيه يطلب البقاء على حاله».

 

هذا القانون الثاني للحركة الذي ينسب أيضاً إلى نيوتن في الغرب رغم أن ابن ملكا البغدادي (480هـ/1087م – -560هـ/1164م) قد سبقه وقدمه في العبارات التالية: «وكل حركة ففي زمان لا محالة، فالقوة الأشدُّ تُحرِّك أسرع وفي زمن أقصر… فكلَّما اشتدَّت القوَّة ازدادت السرعة فقصر الزمان، فإذا لم تتناهَ الشدَّة لم تتناهَ السرعة، وفي ذلك تصير الحركة في غير زمان أشدَّ؛ لأن سلب الزمان في السرعة نهاية ما للشدَّة». ثم يوضح : «تزداد السرعة عند اشتداد القوَّة، فكلما زادت قوَّة الدفع زادت سرعة الجسم المتحرِّك، وقصر الزمن لقطع المسافة المحدَّدة».

 

وهذا القانون الثالث للحركة الذي ينسب إلى نيوتن رغم أن ابن الهيثم (354هـ/955م-431هـ/1040م) سبقه إليه ونصّ عليه كما يلي: «المتحرِّك إذا لقي في حركته مانعاً يمانعه، وكانت القوة المحرِّكة له باقية فيه عند لقائه الممانع، فإنه يرجع من حيث كان في الجهة التي منها تحرَّك، وتكون قوَّة حركته في الرجوع بحسب قوَّة الحركة التي كان تحرَّك بها الأوَّل، وبحسب قوَّة الممانعة».

 

أما السموأل المغربي (524هـ/1130م-570هـ/1175م) فهو صاحب نتائج أصيلة في الجبر لم يسبقه إليها أحد وضعها في كتابه «الباهر في الجبر». وقد جاءت في مقدمة هذا الكتاب العبارات التالية التي يدرك منها القارئ مدى تحكم المؤلف في اللغة إلى جانب براعته في الرياضيات :

 

«هذا الكتاب الذي جمعنا فيه أصول صناعة الجبر والمقابلة، وبرهنّا منها على ما لم نجد أحداً برهن عليه، وكملنا بما أودعناه من الأعمال المبتكرة والأشكال المبتدعة ما كان في أيدي الناس من هذه الصناعة، وعلّلنا فيه ما زعم فيثاغورس أنه أدركه بطريق الوحي، وجئنا به صفواً منزهاً من التمويهات والشوائب، لم نخلط كلامنا بكلام من تقدمَنا، لكنَّا نسبنا إلى أقدم من نقل ذلك عنه، وقسمناه إلى أربع مقالات تنفرد كلُّ واحدة منها بمعنى، فمهّدنا في المقالة الأولى الطريق إلى التصرّف في المجهولات بجميع الأدوات الحسابية كما يتصرّف الحاسب في المعلومات…».

 

هذا، وذهب بعض علماء العرب، بعد التحكم في مقاليد النثر، إلى الاهتمام بكتابة الشعر. فمنهم من كتب أبياتاً في مناسبات مختلفة، ومنهم من كتب أراجيز طويلة تحمل قواعد رياضية دقيقة. ومن أشهر تلك الأراجيز نذكر:

ــ الأرجوزة الياسمينية لابن الياسمين (ت: 601هـ/1204م) : وهي تقع في 54 بيتاً وتناولت موضوع الجبر والمقابلة.

 

ــ أرجوزة «الإكسير المُبتغى من صنعة التكسير» لابن ليون التجيبي (ت. 750هـ/1346م)، تقع في 203 أبيات، وتناولت موضوع الهندسة.

 

ــ منظومة «المُقنع» لابن الهائم المصري المقدسي (753هـ/1352م-815هـ/1412م) : وهي تقع في 59 بيتاً، وتناولت أيضاً الجبر.

 

ــ أرجوزة «منية الحساب» لمحمد بن غازي المكناسي (858هـ/1456م-919هـ/1513م).

 

ــ أرجوزة البقاعي الشافعي (ت: 885هـ/1480م): تناولت الحساب والهندسة.

 

ــ أرجوزة «اللباب في أصول الحساب» لجمال الدين محمد الحضرمي(ت: 930هـ/1523م).

 

تلك إطلالة على روابط تجمع اللغة بالرياضيات، ولا شك أن التعمّق في هذا الموضوع سيكشف عن روابط أخرى بينهما، وكذا بين اللغة ومختلف العلوم. ومن ثمّ فالحال يدعو أهل اللغة والمختصين في مختلف حقول المعرفة إلى تكثيف الجهد والتقارب من أجل خدمة المجتمع العربي لغوياً وعلمياً.

 

أهم المراجع

 

1) الأميري، أحمد البراء: كيف نفكر بدون لغة، مجلة المعرفة، الرياض، عدد 65، 2000.

 

2) السموأل المغربي : الباهر في الجبر، تحقيق صلاح أحمد ورشدي راشد، مطبعة جامعة دمشق، 1972.

 

3) حركات، مصطفى : اللسانيات العربية والعروض، دار الحداثة للطباعة والنشر، بيروت، 2007.

 

4) سعد الله، أبو بكر خالد : عَالم الرياضيات، دار هومة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2005.

 

5) قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ودار الشروق، بيروت، (بدون تاريخ، صدرت الطبعة الأولى عام 1941).

6) Nordon, Didier : Les mathématiques pures n›existent pas! Actes Sud, Paris، 1993

7) موقع لورنت لافورغ على شبكة الإنترنت : www.ihes.fr/~lafforgue

– مجلة الرافد –

د. أبو بكر خالد سعد الله

د. أبو بكر خالد سعد الله

عالم جزائري متخصص في الرياضيات واللغات
الصفحات: 1 2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *