تخطى إلى المحتوى

كيف السبيل لايقاظ الرغبة في التعلم؟

درسنا اليوم!  بهذه العبارة المثيرة كنّا نحرص على التمهيد لدروسنا،ونرجو منها خلق الفضول العلمي لدى تلاميذنا وتلميذاتنا ،وإثارة الشغف السيكولوجي والمعرفي لديهم،وغالبا ما لا يمكننا أن نتصور مدرسا جيدا وهو مفتقد للاهتمام بمادته الدراسية مع اللاّمبالاة بها وبتلاميذه((L’art d’enseigner, J.Banner et Au.2013.

يستطيع الفرد التعلّم لوحده،ولا يمكننا التعلّم بدلا عنه. بداهة يتفق حولها الجميع، ولكن الممارسة تقول أمرا آخر: ليس من شيء مطلوب سوى  إعداد،وتقديم،ثم عرض درسٍ حتى يتمكن التلميذ من التعلّم ومرافقته في ذلك((Apprendre, A.Giordan,1998 .
وبقدر ما تغرقنا أدبيات التربية وعلوم التربية بكثير من التصورات،والنظريات،والمقترحات التجريبية حول التدريس وفق مقاربة الكفايات،مع ما تتسم به من تعددية في التعريف،والدلالة،والتأويل، والتنزيل،وكذا حول التقويم المتلائم معها،فإن الممارسات السائدة تثبت أن  السؤال حول مشروعية الحديث عن تجاوز التدريس الموجّه على ضوء الأهداف ما يزال مشروعا،فهل صار  فعلا اختيار وتحديد ثم بناء وبلوغ الهدف  البيداغوجي(التعلمي) ضمن دائرة المكتسبات النهائية ؟
عقلنة التدريس،والاهتمام بالتحفيز،وبالتعزيز،ثم توفير شروط انبثاق الرغبة في التعلم،هي موضوعات كان التفكير فيها ملازما لتاريخ الفكر التربوي،وانخرط فيه –أكثر من المربين أنفسهم- فلاسفة،وأطباء،ومحللون نفسانيون،وعلماء فيزيزيولوجيا،وبيولوجيا،ولِسنيون،لتعلو في العقد الراهن مساهمة المتخصصين في علوم الأعصاب حاملة وعودا  وآمالا جديدة معها،ولأن الإلمام بالجديد يفترض استيعاب السابق (القديم !) والقدرة على الملاءَمة بينهما،نجد مشروعية الحاجة للعودة بين الفينة والأخرى إلى ينابيع التفكير التربوي والبيداغوجيات المؤسِّسة،فاكتساب،وترسيخ،وتقويم الكفايات،يمكن مقارنته بتلك الطريق المترامية والممتدة أمام الفرد،يَسلكُها،ويسير عبرها،وما يعيشه من تجارب تكون فرصا لتطوير كفاياته،كما يمكنه خلالها تعبئة ما يراكمه من موارد في  خضم تلك التجارب لمواصلة السير نحو الهدف.

« Si vous ne savez où vous allez, vous arriverez probablement ailleurs »
R.Mager.

نقترح هنا ترجمة لنص يعود لواحد من بين المساهمين في البحث وإغناء سؤال التدريس، والهدف من فعل التدريس،ارتبط اسمه بمنهجية تحديد وبناء الأهداف البيداغوجية(من يستطيع مثلا الادعاء بتجاوز نهائي  – أوبلا جدوى- لصنافة الأهداف والمبادئ التي اقترحها ب. بلوم وجماعته  ؟) .
النص مقتبس من كتاب Pour éveiller le désir d’apprendre  لمؤلفه Robert Mager  .
إذا كان فعل التدريس والقولLe dire يعنيان الشيء نفسه،سيكون لنا جميعا ذكاء بدرجة لا نستطيع تحمّلها !
لماذ ندرّس؟ لماذا نقرّر بناء درس مّا؟ ما الذي نرجو القيام به ؟
إننا نُدرّس،ونعلّم، لأننا نأمل بتلك الوسيلة مساعدة الطالب(المتعلم) كي يصير مختلفا عما كان عليه قبل بداية الدرس،ونوفر تجارب تَعلّمٍ مع الرغبة في إحداث تغيير في معارف الفرد،ومواقفه،وأفكاره، وكفاياته عند نهاية البرنامج.
إننا ندرس بغاية التأثير على قدرات الطالب (المتعلم).
خذوا أي درس من بين الدروس التي تقدّمونها:  لم تقدمون درسا مّا،وتعملون على توجيه ومساعدة الطالب على التعلّم؟
ألم يكن ذلك بأمل- عند الانتهاء من بذل الجهد- حصول المتعلم على الأفضل،وأن يفهم ما لم يكن باستطاعته استيعابه قبل الدرس والإحاطة به، وأن يكتسب مهارة تقنية جديدة،ثم أن يعتبر الموضوع بشكل مغاير،وأن يكون لديه ذوق إضافي،والإقبال على شيء(موضوع) لم يكن مباليا به من قبل ؟
إذا كان طموحكم هو بلوغ إحدى- أو أكثر- هذه النتائج فإنكم ستتمنّون أن  يصير طالبكم في نهاية الدرس شخصا آخر.
صِيغٌ متعددة تستعمل لتمييز هذا التغيير المنشود .
إننا نتحدث عن تطوير المهارات،والكفايات،والمواقف،ودرجات الحماسة enthousiasme
نتحدث عن تشجيع من أجل انبثاق الذات وتحققها،وعن مساعدة الطالب على التقدّم، والبحث عن مؤهلاته ورصيده الكامن. ولكن أيّا كانت الكلمات المستعملة لوصف أهدافنا البيداغوجية،وأيّا كانت هذه الأهداف،فمن المستحيل بلوغ هدفٍ واحد من بينها إذا لم يُفضِ تأثيرنا بطريقة ما إلى إحداث التغيير في الطالب عند الانتهاء من الدرس.
ومن المهم أيضا اختيار اللحظة المناسبة في البحث عن جواب عن السؤال:متى نرغب في رؤية،وظهور،ذلك التغيير؟
هل ندرّس الجبر،والكتابة،والمنطق حتى يتمكن الطالب(المتعلم) من تطبيق معارفه الفورية دونما أي انشغال بالمستقبل؟
وحينما نعطي درسا في الموسيقى،هل يكون بغاية تقديرها –فقط- من طرف التلميذ  خلال الحصة بالقسم، أم لتقدير دائم لديه وتأثير عليه ؟
نحن نهتم أكثر بما سيقوم به الطالب(المتعلم) بعد الدرس وبعد إتمام الفعل. إننا نحاول  في الآن خلق  شعور لديه تجاه الموسيقى حتى يصبح لاحقا شعورا مكتسبا لديه دون حاجة لمساعدتنا . إننا نحاول تعليمه القراءة الآن(في الدرس) حتى يصير قادرا على القراءة للأبد،وننشغل بمعرفة ما إذا كان لفعلنا أثر في المستقبل القريب أو البعيد كما في الحاضر .
لقد قام الدكتور ج.برونر بتلخيص تلك المسألة :”إن الغاية(الهدف) الأولى من كل فعل تعلّمٍ هي أن يفيدنا في المستقبل” .
من المؤكد أن هدفا من بين الأهداف المهمة للتعليم هو منح الفعل خلال التجربة التربوية امتدادا فيما بعد الدرس. إن هذا المُراد ضمنيّ تقريبا في معظم تعاريف الهدف . فليس السؤال الآن فحص ما إذا كان بلوغ هذا الهدف أو غيره ممكنا تحققه بواسطة الطرق الكلاسيكية في التعليم، ولا التساؤل حول صلاحية ذلك الهدف وكيفية تحديده .
إن هاجسنا الوحيد هو أن نلاحظ بأننا نفترض قدرةً لدى التلميذ،من خلال سلوكه،على بلوغ الهدف من تعلّم محدّدٍ ما أن ننتهي من هذا الأخير،أي بمجرد أن يتوقف الفعل المباشر  والفوري للتعليم .
رغبتنا هي أن يستعمل ويوظف الطلبة ما قمنا بتعليمه لهم عند نهاية الدرس،وهذا أمر لا شيء جديد فيه. ربما نحن  نلح أكثر على هذه النقطة،غير أن هذا الهدف يستحق بذل الجهد لبلوغه،فلا يكفي فقط الحديث عنه . فإن كان هدفا له قيمته،فمن الواجب علينا القيام بما يلزم حتى يتحقق،وتعلّم التعرّف عليه إذا ما توصلنا إليه .
إذا ما كان  للتعليم قيمة،أليس من المطلوب معرفة مدى نجاحنا فيه ؟
لنتفق على أن التدريس له مهمة تسهيل إتمام فعل في لحظة محدّدة ما أن تنتهي عملية التعليم .ربما قد تتساءلون :وماذا بعد ؟
ببساطة إنه الآتي:كلما كان ما تدرسونه له أهمية، كلما كان من الضروري أن يرغب طلبتكم في استعمال/توظيف ما تعلموه منكم .
إذا ما كنتم تبذلون جهودا من أجل ترتيب أفكاركم،وتنظيم تجارب تعليمية ملائمة لأجل تلاميذكم،فإنه من المؤكد أنكم  سترغبون  في تفادي الوضعية التالية :أن تسمعوا واحدا من بين تلاميذكم السابقين يقول متعجبا”أتمنى حقا عدم الحديث عن هذه المادة الدراسية” .فأي خسارة جهد ستكون بالنسبة لكم ولتلميذكم! ربما  كنتم لتبذلوا الجهد لتعليمه شيئا مهما من الممكن ألاّ  يوظفه أبدا،وربما بذل جهوده الخاصة به لدراسة تقنية أو معارف ستسمح له  بقدر من التفوق،و بسعادة أكثر،وفائدة، أو بمكانة أعلى .
إذا ما كان للتعليم قيمة،أليس من الأفضل أن تكون  له قابلية الاستعمال؟
من بين أهدافنا التأثير على الطالب بغاية –عند الانتهاء من درسنا-أن نجعله يفكر فيه،ويدرسه،ويناقشه،ويستخدمه لأجل شيء ما،إن كان الأمر كذلك،كيف لنا  أن نتحقق من بلوغ هدفنا إذا ما كان الطالب يتجنّب الحديث عنه؟
يمكننا أن نحاول التأثير على التلميذ بطرق متنوعة،ولكن،على الأقل، من الواجب علينا بذل الجهد حتى يكون لديه رأي أفضل حول الموضوع، أو حول نشاط التعليم. وهذا ما قد يمثل الهدف الأدنى والكوني للتربية.
(من المؤكد أنه ليس من الضروري “حُبّ” مادة للاستمرار في توظيفها أو الاشتغال عليها.لنفكر في كل تلك الأشياء التي ينبغي على الأفراد القيام بها، والتي كانوا يفضلون تَركها. أضيفوا الوقت الذي عليكم تخصيصه لأشياء لا تعجبكم .ولكن،هنا بالذات يكمن المشكل.
يحاول الأشخاص استعمال وقت أكثر للقيام بما لديهم نحوه انجذاب،وتجنب ما لا يثيرهم،ما عدا إن كانت الحيثيات تمنعهم من ذلك. الذين يهابون الرياضيات مثلا ينازعون باستعمال الحساب الرياضي حينما يكونون مضطرين إليه .والذين لا يمكنهم تحمّل موسيقى الأوبّرا سيفعلون ذلك إن لم يكن لديهم الاختيار،ولكن حينما يتوفر هذا الأخير –الاختيار- فإن الطالب(المتعلم) السابق سيكون أكثر ميلا لتطبيق ما تعلمه في المادة الدراسية معنا إن كان يحبها أكثر من أنه يكرهها .
يمكننا أن نقوم بعدد من الأشياء حتى نزيد من الطابع الإيجابي وإقصاء الجانب السلبي ).
طبعا،لا يمكن للمدرسين التحكم في كافة العوامل القادرة على التأثير في موقف الطالب(المتعلم)،فهناك الأسرة،والأصدقاء،والمحيط .هناك العمّ(القريب) الذي طالما أُعجِب به،والصحافة المنتشرة والأخبار .
علينا إذن أن نكون واقعيين في آمالنا .
ولكن إذا ما كنتم تعترفون بأن عددا من العوامل (قادرة على جذب الطالب نحو مادة دراسية أو خلق النفور لديه منها)ليست تحت تأثير المدرِّس،عليكم أيضا أن تتقبلوا بأننا نستطيع التأثير على موقف الطالب .
هنا،حيثما يمكن للآخرين الفعل،يمكنكم أنتم أيضا .
بمعنى آخر،إذا كان صحيحا بأن مدرِّسا لا يمكنه مراقبة كل العناصر المحددة للموقف تجاه المادة،والتحكم فيها،فإنه ليس من الممكن نفي بأنه واحد من بين عناصر التأثير .
لنلخص إذن :
-كل فعل تعليم هو فعل موجّه نحو المستقبل: أي أن الهدف من التعليم-عند الانتهاء منه- هو تسهيل سلوك مُعطى في لحظة محددة.
-إحتمالية استعمال المعارف من طرف الطالب(المتعلم)تتأثر بموقفه تجاه المادة.
إننا ننسى بسرعة ما لا نرغب فيه.
-يتبادل الأفراد التأثير فيما بينهم،ويمارس المدرسون تأثيرا فعليا على المواقف المتخذة تجاه مادة مّا،ونحو الدراسة عامة
-ينبغي المحاولة،عند الانتهاء من الدرس،على أن يكون- وبقدر الإمكان- للطالب الموقف الأفضل تجاه التخصص المدروس،وهو من بين الأهداف الرئيسية. إننا نزيد بذلك من الفرص التي قد تجعله يتذكّر ما تعلّمه،وأن يرغب في معرفة المزيد .
كيف نصل إلى ذلك؟
كيف يمكننا التصرف حتى نتحقق من أننا قمنا بكل شيء من أجل أن يكون لدى الطالب، حينما يكون بعيدا عنّا،موقف أفضل نحو مادتنا الدراسية ؟
إن  الطريقة الأحسن ربما هي أن نبدأ بتحديد الهدف بوضوح،ووصف ما سيقوم به الطالب إثر بلوغ الهدف،ثم أن نحاول اتّباع طرق تسمح وتساعد على تحقيق ذلك الهدف،وأخيرا  باعتبار الخطة والإجراءات المتنوعة التي تعطينا إمكانية مراقبة ممارستنا في تدريس المادة،وفحص مدى سلبية أو إيجابية الشروط  التي نوفرها، مع رصد العناصر المناسبة التي يمكننا إضافتها لتلك الموجودة سلفا.
إنني لا أدّعي تقديم حلّ نهائي لمشكل جد مهم،وسيظل دائما هناك الكثير لتعلُّمِه،ولكننا على الأقل نعرف الكثير حول السلوك الإنساني،وحول قدرة تعليمنا ،قدرةٌ يمكنها التطور  كلما ازداد فهم  وتطبيق تلك المعرفة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *