الأسرة و التنشئة الاجتماعية

سبق لنا أن تطرقنا بتفصيل للتنشئة الاجتماعية، مفهومها، مؤسساتها، آلياتها والتي يمكنكم الاطلاع عليها من هنا… لكن نظرا لِما للأسرة من دورٍ كبيرٍ وحاسمٍ، في التنشئة الاجتماعية فقد ارتأينا أن نتناول هذه النقطة بتفصيل أكثر، من خلال هذا الموضوع.

تُعد الأسرة الوَحدة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل حيث يحتك بها احتكاكا يوميا، فهي، من بين المؤسسات الاجتماعية الأخرى، تعتبر المؤسسة الأولى والأساسية المسؤولة عن إعداد الطفل وتهييئه للحياة الاجتماعية، ليكون عُضوا فَعّالا وصالحا في المجتمع. ناهيك عن أن لها أهمية كبيرة في حياة الطفل خاصة في السنين الأولى من عمره، باعتبارها عالم الطفل الكلي.

فتكيُّف الطفل مع نفسه وأسرته ومجتمعه رهين ببناء علاقات أسرية مثينة وتماسك بين أعضائها (الأم والأب والإخوة خصوصا) ومراعاة الاستقلالية والتكامل في شخصيته (فكريا، نفسيا، عاطفيا…).

يمكن اختصار هذا الدور في التنشئة والإرشاد و التهذيب:

أ- التنشئة

تتم التنشئة الاجتماعية من خلال إشباع حاجات الطفل العُضوية الأولية. فالأم، عند عملها على إشباع حاجات طفلها، تكون بصدد وضع اللبنة الأولى للتنشئة الاجتماعية، قبل أن تأتي بعد ذلك باقي المؤسسات المختلفة المتدخلة في هذه العملية.

والطفل لكي يندمج في مجتمعه ويقوم بدروه المستقبلي، لا يكفيه إشباع مطالب الجسم المادية التي تكفل له البقاء -باعتبار أن المحافظة على البقاء أكثر الحاجات وُضوحا لدى الإنسان- بل هو بحاجة لأن تتفتح مواهبه و تُنمى قدراته واستعداداته وميوله…ومنه، يتوجب على الأسرة، لتجنب حالات الإحباط و المشاكل السلوكية، تفهم ومراعاة مختلف حاجات الطفل، ومن  أهمها:

– حاجات النمو الجسمي: الطعام، الشراب، التخلص من الفضلات، النوم، الراحة، اللعب، الحركة…

– حاجات النمو العقلي: تنمية المهارات العقلية، المهارات اللغوية، الاكتشاف، البحث، الاستطلاع…

– حاجات النمو التفاعلي الاجتماعي: الشعور بالانتماء، الحنان، الأمان، الحب، احترام الذات، المشاركة، الفهم، الحرية…

كما يدخل في إطار هذه التنشئة الحرص على غرس القيم السياسية والوطنية في نفوس الأطفال، عبر تحسيسهم برموز بلدهم  (العلم الوطني، النشيد الوطني، رجال الشرطة، الجنود…).

فالأسرة، باعتبارها المؤسسة الرئيسية في نقل الميراث الاجتماعي، يتعدى دورها إشباع الحاجات مادية إلى بناء الشخصية وبناء الانتماء، عبر:

– تحبيب المناسبات الوطنية للطفل: المشاركة، التفاعل…

– توعيته بالرموز السياسية لبلده: العلم الوطني، النشيد الوطني…

– ربط الطفل بهويته الوطنية: وانفتاحه على المواطنة الكونية أيضا.

– تنمية حب الوطن والانتماء له: العمل من أجل رُقيه وتقدمه والدفاع عنه.

– تعويده على حب العمل التعاوني المشترك: العمل في فريق…

– تعزيز الثقافة الوطنية: الوعي بتاريخ الوطن ونقل المفاهيم الوطنية…

– الحرص على احترام القانون: الالتزام بالنظام.

ب- الإرشاد والتهذيب

يُعتبر الإرشاد والتهذيب أحد أهم المسؤوليات المُلقاة على عاتق الوالدين؛ وللتهذيب طرق مختلفة تجعل الطفل يتعلم التحكم في ذاته، لينسجم مع مجتمعه، ومنها:

– الشدة والحزم: وهي تهديد الطفل باللجوء إلى  العقاب البدني، وهي طريقة غير موصى بها، لأنها تجعل أفعال الطفل مقترنة بالخوف، وليست نتيجة رغبة واقتناع.

– التهديد بعدم الحب: غالبا ما يؤدي اتباع هذه الطريقة إلى مشاكل نفسية عند الطفل.

– المناقشة: بالاعتماد على الشرح وتوضيح الأسباب والمبررات.

والجدول التالي يوضح طرق التهذيب والإرشاد للأطفال حسب المرحلة العمرية للطفل.

التنشئة الاجتماعية

تختلف أنماط واتجاهات الوالدين في تربية وتنشئة أطفالهم من أسرة إلى  أخرى، ومن بيئة إلى أخرى… لكنها على العموم أنماط تُحصر في 3 أنواع، وهي:

أ- النمط الديكاتوري

يسعى الآباء والأمهات في هذا النمط إلى الحصول على الطاعة العمياء للأبناء، دون أدنى مناقشة، باعتقادهم أن الطاعة هي أهم سلوك يجب أن يتعلمه أطفالهم. وغالبا ما يستعمل هذا النوع الأسر طريقة العقاب الجسدي، وهي طريقة لن تكون نتيجتها سوى الخوف والتمرد، عكس ما هو متوقع من اعتماد هذا النمط.

ب- النمط المتساهل

أو الفوضوي، حيث تسود الفوضى والعشوائية، لا إرشادات، لا توجيهات… يعتقد من يتبع هذا النمط أن على الأطفال معرفة الخطأ من الصواب واتخاذ قراراتهم بأنفسهم دون أدنى توجيه من الأسرة، يعتقدون كذلك أن الأطفال سيشعرون بالانزعاج عند نصحهم وتقديم التوجيه والإرشاد لهم؛ في حين أنهم يشعرون بالضياع بدون تدخل الأسرة، ناهيك عن الاضطرابات التي قد تحدث لهم لاحقا لانهم لم يعتادوا التوجيه والانضباط.

ج- النمط الديمقراطي

هو الحل الوسط بين النمطين السابقين: نُظم وقوانين، لكن أيضا مساحة من الحرية، ويبقى العمود الفقري لهذا النمط هو الحوار والمناقشة، فمن المستحسن، بل ومن الضروري أن نشرح للأطفال أهمية القوانين والقواعد وسبب اعتمادها، بل وإشراكهم في وضعها وتنفيذها (الاعتماد على النفس وضبط الذات).

مما لاشك فيه أن التنشئة الاجتماعية عملية معقدة وطويلة وبطيئة، تسعى من خلالها الأسر في مرحلة أولى وبشكل أساسي إلى إشباع حاجات الطفل الغريزية، لتسعى بعد ذلك إلى تحويله من كائن بيولوجي إلى شخص اجتماعي مندمج مع محيطه الاجتماعي.

فالتربية، كما يقول إميل دوركايم، جُهد متواصل يكتسب الطفل من خلالها ألوانا من الفكر والعاطفة والسلوك التي لا يمكنه الوصول إليها لو تُرك لوحده، ومنه، فالأسرة ترغمه في حداثة سنه على اكتساب مهارات وعادات الطعام والشراب والنظام والطاعة والنظافة والنوم وضبط المثانة والأمعاء ومراعاة حقوق الغير، واحترام التقاليد والعادات…

و التنشئة الاجتماعية ليست عشوائية عفوية، إنما هي تربية مقصودة ومعيارية، تساعد الفرد على فهم ثقافة مجتمعه وتقبلها والانخراط فيها، لضمان استمرارية التركيب الاجتماعي. وللأسرة دور هام في هذه العملية التربوية الاجتماعية، حيث تتمثل الوظيفة التربوية للأسرة في ناحيتين أساسيتين، هما:

– كونها الإطار الثقافي والأداة الرئيسية لنقل الثقافة إلى الطفل.

– وسيلة لاختيار ما هو أساسي وهام من البيئة الثقافية، ثم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه؛ و بمعنى آخر، فأن الطفل ينظر إلى ثقافة مجتمعه من وجهة نظر أسرته.

و في علاقة دائما بالأسرة، وجبت الإشارة أنّ للأساليب الحوارية  دور فعال وأساسي في تنشئة الطفل، وبناء شخصيته الفريدة، ومن فوائد الحوار مع الطفل نجد:

– إثارة انتباهه لما يُطلب منه.

– توضيح الأفكار  بصورة أفضل.

– الإسهام في نمو عقله وسمو فكره.

هذا ويجب على الأسر الحرص على استثمار أسلوب الحوار عبر القيام بأمور كثيرة، منها:

– الاستماع إلى آرائهم.

– التعامل ببشاشة.

– معانقتهم ومسح رؤوسهم.

– ممازحتهم وملاطفتهم في حدود معينة.

على العموم، الحوار ركنٌ أساسي في نمو الطفل النفسي، وهو ضروري لنضجه الاجتماعي، وغيابه يؤدي إلى:

– تدني المهارات الاجتماعية.

– صعوبات في التكيف الاجتماعي والاستقرار النفسي.

– فقدان الطفل لشعوره بذاته وثقته بنفسه.

– عدم القدرة على التواصل مع الآخرين.

لكن قبل ذلك، يجب على الأسر الوعي بأهمية الحوار و ضبط آلياته عبر:

– اكتساب المهارات والمعارف الضرورية للتربية.

– الوعي بأهمية التواصل والتضامن والتآزر العائلي.

– إعطاء القدوة في التصرفات والسلوك.

– تعزيز الجوانب النفسية والسيكولوجية والفسيولوجية لجميع أفراد الأسرة.

– اعتماد الحوار المستمر داخل الأسرة.

– الابتعاد عن العقاب البدني قدر المستطاع.

– الرفع من مساحة الحوار غير اللفظي: الرموز، الإشارات، النظرات…

إضافة إلى أسلوب الحوار، تُعتبر طريقة المحاكاة ذات فاعلية في التنشئة الاجتماعية باعتبارها غير مباشرة، تؤثر في الطفل دون أن يشعر بها، فيلجأ معها الطفل إلى تقليد والديه في سلوكهم دون ممانعة أو نفور منه.

في علاقة دائما بالأسرة والتنشئة، تجب الإشارة إلى وجود 3 درجات لضبط دوافع الطفل وسلوكياته، وهي:

-الدرجة الأولى: في علاقة بالمستوى الغريزي، التعلم في هذه الدرجة يتم بشكل شرطي، أداته المعيارية الشعور باللذة أو الألم، حيث يقوم الطفل بتكرار كل ما يُشعره بالفرح والمتعة والانشراح واللذة والطمأنينة…، بينما يتجنب الفعل الذي يُسبب له الألم. ثم شيئا فشيئا تنمو لديه الأنماط السلوكية المرغوب فيها اجتماعيا.

-الدرجة الثانية: المستوى الاجتماعي، حيث يتم التعلم عن طريق التقليد والإيحاء.

-الدرجة الثالثة: وتقع في المستوى الثقافي، وهي عملية الضبط الاجتماعي التي تتم من خلال الأعراف والتقاليد وثقافة المجتمع وآدابه الشعبية، إضافة إلى جُملة الأوامر والنواهي التي تحكمه.

ومن أهم ما يتعلمه الطفل في الجو الأسري:

– المشي والفطام والكلام…

– التعود على تجنب الدوافع الممنوعة اجتماعيا و تقنينها كالدوافع الجنسية مثلا.

– الالتزام بعادات وقيم المجتمع.

– احترام السلطات الاجتماعية، والقيام بدوره الاجتماعي.

– اكتساب الانضباط والتعود على النظام والتنظيم.

– التمييز بين الصواب والخطأ، والخير والشر…

تتجلى أهم الأساليب المثالية للتنشئة الاجتماعية داخل الأسرة في:

– الملاحظة والتقليد والمشاركة: إعطاء الفرصة للأطفال للتعبير عن مواقفهم ومشاعرهم، وتكليفهم ببعض المهام الصغيرة.

– القدوة الصالحة: يجب أن تحرص الأسر على تقديم القدوة الجيدة، فلا جدوى، مثلا، أن يقول أب مُدخِّن لأطفاله أن التدخين مضر بالصحة.

– الثواب والعقاب: لتعزيز السلوك المحمود، وتجنُّب غير المرغوب فيه.

-التفاعل مع تساؤلات الطفل: فالطفل يحاول دائما تفسير واكتشاف ما يجري حوله.

– تعريف الأبناء بالقواعد التربوية: قبل الوقوع في الخطأ.

– الابتعاد عن أساليب التنشئة الخاطئة: مثل إهمال الأطفال وتركهم عُرضَة للشارع.

– الحرص على الاهتمام بمختلف نواحي النمو: المعرفي والاجتماعي والصحي والأخلاقي… فحاجات الطفل لا تُشبع بالطعام والماء فقط.

– التربية الجنسية: و تزويد الجنسين بالمفاهيم الصحيحة في هذا المجال.

– تحمل المسؤولية: تكليف الأطفال ببعض الواجبات المنزليّة كتنظيف طاولة الطعام، وجمع الكتب واللعب وترتيب السرير…

– الاهتمام بما يشاهد الطفل: عبر اختيار الأفلام والرسوم المتحركة وبرامج التليفزيون والمجلات والقصص المناسبة، وإبعاده عن البرامج غير التربوية والهدامة.

تجنب المقارنة بين الأطفال:  فهو أسلوب ثبت أنه لا يخلق سوى العداوة والغيرة والكراهية.

-التقليل من المدح: الثناء على الطفل على كل عمل يؤديه قد تكون له نتيجة عكسية، تجعل الطفل ينتظر مقابلا في كل مرة.

– تكليف الطفل بما هو في متناوله: وذلك لتجنب الإحباط والشعور بالفشل.

– تصميم واعتماد مواقف تعليمية: مواقف يومية تُسْتثمَرُ لإكساب الأطفال القِيم والسلوكات المرغوب فيها.

– اللعب: للعب أهمية كبيرة في نمو الأطفال وتوازنهم، لهذا ينبغي الحرص على  توفير اللعب الكافية دون تفريط ولا إفراط.

– تنفيذ الوعود التي تُعطى للأطفال: احترام مبدأ الثقة.

قد تحول عدة أسباب وعوامل دون تحقيق الأهداف المرجوة من التنشئة الاجتماعية، ومنها:

– عدم القدرة على تخصيص الوقت الكافي للاهتمام بالطفل: بسبب كثرة الأعمال المنزلية أو غير ذلك.

– ظروف السكن: للفضاء المكاني أهمية بالغة في تنشئة الطفل، التي قد تتأثر بسبب سوء الأحوال السكنية أو عدم ملاءمة البيت لمتطلبات الطفل وحاجياته.

– الوضع الاقتصادي المُتدني لبعض الأسر: الفقر، سوء التغذية…

– جهل الأسر بأساليب التربية السليمة، والمستجدات التربوية التعليمية.

– الظروف العامة لبعض البلدان: عدم الاستقرار السياسي، كوارث طبيعية، مجاعات، حروب، تدهور الأوضاع الاقتصادية…

– البيئة: لمحيط الطفل دور كبير في تنشئته، ولهذا غالبا ما يعاني أطفال الأحياء الفقيرة والهامشية من صعوبات في الاندماج في المجتمع الكبير.

– التفكك الأسري والطلاق.

– التميز بين الذكور والإناث (عدم المساواة).

 

Exit mobile version